
………….قصص خيالية مستوحاة من عمق الواقع
بازار المواهب الخفية
حكاية عن قدرات لا نراها
في عالم غريب يشبه السوق، تدعو تيرا بطلتنا ليان إلى بازار لا يبيع بضائع تباع، بل يعرض مواهب مخفية داخل كل منا. هناك، تكتشف ليان أن أثمن ما يمكن أن تجده ليس شيئًا خارجيًا، بل ما كان يختبئ في داخلها .
جلست ليان على مكتبها، وتحت ضوء المصباح الخافت تكتب يومياتها كعادتها في دفترها الوردي الذي كان ينتظر منها أن تبوح له بشيء .
وفجأءة شعرت برجفة في يدها، كأن الكلمات تخشى أن تُكتب، حيث خيم الصمت على المكان فلم تجد كلمة واحدة تكتبها .
أصبح فكرها يلامس فراغاً أعمق من صمت الورق، وصوت عقارب الساعة يضغط على قلبها يشعرها بالضيق والملل .
ليان تسأل نفسها مراراً، لماذا لا أجد نفسي في أي شيء ؟
لماذا لا أملك شغفًا أتميز به مثل الآخرين ؟
بالرغم من أنها لم تكن فاشلة، ولم تكن كسولة، بل كانت جيدة في كل شيء تعمله، وربما تصل في الأغلب إلى الإبداع والإتقان فيما تعمله .
تكتب بخط جميل، تلتقط صورًا رائعة بكاميرتها، ترسم، تخيط وتطرز بشكل جذاب، حتى أنها جربت صناعة فيديوهات قصيرة وكانت جيدة في ذلك، لبقة في التحدث وإلقاء الخطابات المدرسية .
لكن رغم ذلك، كان قلبها فارغًا، تشعر بأنها ناقصة تبحث عن شئ لا تعرف ما هو، شيء يجعلها تشعر بحرقة تشتعل في داخلها لأنها لم تجد من يهتم لأمرها، ويبدد حيرتها .
وفجأة، شعرت بنسمة باردة تتسلل من نافذتها، تتبعها خيوط ضوء تتراقص في الغرفة. رفعت رأسها، لتجد فتاة تضيء كالقمر واقفة أمامها، بشعرها الفضي الذي يلمع كأشعة الفجر، وعيناها اللامعة تشعر الناظر إليها بالأمان .
ليان : تمتمت بصوت مرتجف، من!! من أنتِ ؟ .
ابتسمت الفتاة ابتسامة مطمئنة وقالت : أنا تيرا، حارسة الأمنيات، جئت لأصحبك إلى مكان سيغير حياتك .
لوّحت تيرا بيدها، فظهر أمامهما باب خشبي ضخم يلمع منسوج من نجوم الليل، فوقه لافتة كبيرة مضيئة كُتب عليها :
” بازار المواهب الخفية ”
تيرا : سوف تكتشفين شغفك هنا، يا ليان .
ليان لم تصدق عينيها. همست بخوف ودهشة : ما هذا المكان ؟ هل أنا أحلم ؟
أجابت تيرا بابتسامة غامضة :
أحيانًا، لا نكتشف أنفسنا في الواقع، بل في الأحلام التي تفتح لنا أبواب الحقيقة .
فتلك القناديل المعلقة والمظلمة، كلما اقتربتي منها سوف تضئ لك، بسبب ما تتميزين به من قدرات ومهارات، وبما تملكين من طاقة عجيبة في داخلك، هيا، ادخلي لنرى أين يسكن قلبك .
ليان داخل البازار العجيب ..
وبمجرد أن خطت ليان قدمها داخل البازار، غمرتها ألوان لم تر مثلها من قبل، أجواء مدهشة، موسيقى خافتة، أضواء تلمع في السماء، أكشاك تصطف في دوائر، وكل واحد يفيض بسحر خاص .
كأن المكان يطير في السماء، تحمل تلك الأركان المضيئة سُحبٌ ساحرة تنبض بالإبداع وتمطر بالأفكار .
قالت تيرا وهي تلوّح بيدها نحو الأركان المضيئة : كل ركن هنا يمثل موهبة، لكن ليس كل ركن لكِ .
ستجربين، ستبدعين، وربما ستنجحين في كل ماسوف تجربينه، لكن!! كل ركن لن يدوم جمال سحره لك، إلا إذا وصلتي إلى مكانكِ الحقيقي .
جلست ليان على الكرسي الطائر ببطء بدت عليها دهشة شديدة، عيناها تلمعان بالفضول، وقلبها يخفق بشدة .
توجه بها الكرسي الطائر إلى ركن الرسم، الألوان الذائبة ،،
أول ما شدّها هو ركن الرسم، رأت جدران مليئة بلوحات تتراقص منها الألوان كأنها حقيقة وفُرش الرسم تطير في الهواء تدعوها لترقص معها .
شعرت ليان بشيء يسحبها برفق، جلست أمام لوحة بيضاء، والتقطت فرشاة ناعمة .
بدأت ترسم، وما إن وضعت أول نقطة، حتى تدفقت الألوان وحدها على اللوحة، لتشكل منظراً خلابًا.

انبهرت ليان : يا إلهي! لم أكن أعلم أنني أستطيع رسم شيء بهذا الجمال!
كانت سعيدة، بل متحمسة، لكن بعد فترة وجيزة، بدأ شيء غريب يحدث، الألوان على اللوحة أخذت تتلاشى ببطء، والفرشاة أصبحت ثقيلة في يدها .
وفجأة، ظهر جدار زجاجي شفاف بينها وبين اللوحة، كأنه يفصلها عن عالم الألوان .
صاحت ليان في دهشة : لماذا ؟ ما الذي يحدث ؟
اقتربت تيرا منها وربتت على كتفها برفق :
ليان : هذا ليس شغفك، موهبتكِ ليست مجرد شيء تجيدينه، بل شيء يجعلك تنسين نفسك فيه، لقد شعرت بك الألوان فتلاشت وذابت من فورها .
تحرك الكرسي الطائر وارتفع بها عالياً إلى ركن آخر .
ركن التصوير ، وقد شدّها من أول نظرة، كان المنظر مبهراً : كاميرات تسبح في الهواء، صور تتبدل وتتحرك على جدران زجاجية ضخمة، ومرايا لامعة تعكس لحظات حياتها، تتشكل أمامها صور جميلة بألوان بديعة قد التقطتها سابقاً .
أمسكت ليان بإحدى الكاميرات، وما إن ضغطت الزر حتى التقطت صورة مبهرة : غابة تلمع بألوان الفجر وشلالات ذهبية تنحدر من أعلى البحيرة، انبهرت ليان بجمالها، فالتقطت المزيد من الصور الاحترافية، فكل لقطة وصورة كانت كالحلم .
ابتسمت ليان وقالت :
لقد أحببت ذلك، إنه رائع!

لكن فجأة، اهتزت الصور، وتلاشت ببطء في الهواء، وبقي الجدار عارياً، شعرت ليان بفراغ غريب في قلبها، وكأن تأثير سحره عليها تلاشى عنها .
تقدمت تيرا وقالت بهدوء : ليان – حتى لو أبدعتِ في كل شيء، سيظل قلبك يبحث عن ومضة لن يختفي ضوؤها .
انتقلت ليان من ركن لآخر ، في ركن الخياطة، صنعت ثوبًا يلمع كالنجوم، لكنه تفكك فجأة واختفى .
وفي ركن الابتكار ، اخترعت آلة مذهلة، لكنها تحولت إلى غبار متناثر بين يديها .
وفي كل مرة، يبدأ السحر قويًا، ثم يختفي، ويختفي معه شعور اندفاعها ونشوتها نحو تلك المهارات التي تتقنها .
لماذا يحدث هذا لي؟! صاحت ليان ممسكة برأسها وهي تحدق في الأركان .
ابتسمت تيرا وأمسكت بيدها : لأنكِ لم تصلي بعد إلى باب قلبكِ. هيا، بقي ركن واحد، الركن الذي لا يزول أثره .
اصطحبت تيرا ليان إلى آخر البازار، حيث كان الركن الأجمل على الإطلاق :
ركن الحروف والكلمات .

كان المكان أشبه بحلم شعري : حروف مضيئة تولد من عمق الأفكار ، دفاتر تحلق برفق على أزهار المعرفة تنتشق عبيرها، فتشدو الأقلام بجمل منسوجة بخيوط من ذهب .
وما إن دخلت ليان، حتى شعرت بشيء مختلف، قلبها يخفق كأنه وجد بيته، اقتربت من طاولة صغيرة، جلست، وأمسكت بقلم فضي يلمع كضوء القمر .
كتبت أول جملة : لا أريد أن أكون مجرد ظل، أريد أن أكون شمساً مشرقة .
وفجأة، أضاءت الكلمات على الورق، وانتشرت في الهواء تلمع، الأوراق من حولها بدأت تتفتح كزهور تعبق بعبير المسك، والحروف تدور حولها كأشرطة ذهبية .
واصلت ليان الكتابة، صفحة تلو الأخرى، الوقت اختفى، لم تعد تسمع صوت تيرا، لم تعد ترى الأركان، لم يكن في العالم سوى هي، وكلماتها .
بعد ساعات – أو ربما دقائق، لم تعرف، وضعت القلم، وابتسمت .
أخبرتها تيرا بصوت دافئ : هذا هو شغفكِ يا ليان، هنا يختفي الزمن، وهنا يضيء قلبك. الكتابة هي نافذتكِ على الحياة .
قبل أن تغادر ليان البازار، أعطتها تيرا دفترًا مذهّب الحواف وقالت : اكتبي فيه كل يوم، اجعلي كلماتكِ تنبض بالمحبة .
ثم همست لها تيرا قبل أن تختفي :
ليان، الموهبة ليست أن تجيدي شيء، بل أن تجدِي ما يملأك حبًا، فتتقنينه ويضيء حياتك .
فتحت ليان عينيها لتجد نفسها أمام مكتبها ودفترها الوردي بين يديها. ابتسمت، وكتبت في أول صفحة :
هنا تبدأ رحلتي، مع كلماتي .
في الحقيقة كل واحدة منا قد تجيد أشياء كثيرة، لكن الشغف الحقيقي هو ما يجعلنا ننسى الوقت ونذوب فيه بلا ملل، لن نخاف من الفشل، ولن نتوقف حتى نجد الشيء الذي يضيء قلوبنا .
وأنتِ هل مررتِ بلحظة ملل تحولت إلى إبداع ؟