
……………الفصل التاسع
الحقيقة المخفية
مرت السنوات سريعًا، وقد حان الوقت لتخرج جوانا من كلية الطب، كانت تشعر بمزيج من الحماس والرهبة، فأول قرار أتخذته بعد تخرجها هو العمل في المستشفى الذي يعمل فيه الدكتور خالد فهو الذي طلب منها العمل معه لأنه كان دائماً داعمًا أساسيًا لها في رحلتها الطبية .
وفي صباح اليوم التالي، دخلت جوانا المستشفى لأول مرة كطبيبة، شعرت وكأنها في عالم مختلف تمامًا، رغم أنها قضت فيه عام الامتياز، لكنَّ الآن، لم تعد مجرد متدربة، بل أصبحت طبيبة رسميًا كما كانت تحلم؛ ورغم أنها تعلم أن هذا اليوم سيغير حياتها، لكنها لم تكن تعلم أن هناك مفاجأة غير متوقعة في انتظارها .

استدعاها الدكتور خالد إلى مكتبه، كانت ملامح وجهه تحمل مزيجًا من الفخر بها والتردد فيما سوف يخبرها به، جلست جوانا على الكرسي المقابل له،
ابتسمت قائلة : أنا متحمسة جدًا للعمل هنا، وأشعر أنني أخيرًا سوف أبدأ مسيرتي الحقيقية .
نظر إليها خالد مطولًا، وكأنه يحاول أن يرتب الكلمات ويختارها ، ثم قال بصوت هادئ : هناك شيء لم أخبرك به من قبل، وكنت أنتظر اللحظة المناسبة .
عقدت جوانا حاجبيها في حيرة، وقالت : ماذا تقصد ؟ هل هناك شيء يخص عملي هنا ؟
الدكتور خالد – بتنهد عميق – قائلاً : هذا المستشفى ليس مجرد مكان عمل بالنسبة لكِ، إنه جزء من ميراثك يا جوانا، هذا المستشفى كان حلم والدك، وهو شريكي في ملكيته منذ تأسيسه .
اتسعت عينا جوانا في صدمة، واحست وكأن الأرض تدور بها، لم تستوعب ما قاله لها الدكتور خالد، جوانا – في تعجب -: ماذا ؟! والدي كان شريكًا في المستشفى ؟!
هز الدكتور خالد رأسه مؤكدًا : نعم، والدك لم يكن مجرد طبيب، بل كان شريكًا مؤسسًا لهذا المكان، لكنه اختار أن يكرّس نفسه للطب، وترك لي إدارة الجوانب المالية والإدارية، وبعد وفاته، بقيت أنا المسؤول الوحيد عن المستشفى، لكنه لا يزال يحمل اسمه وذكراه في كل زاوية .
وضعت جوانا يدها على فمها غير مصدقة، وهى تنظر بذهول، وشعرت حينها بمزيج من الفخر والدهشة فامتلأت عيناها بالدموع .
جوانا : – بصوت يملئه صوت بكاء – الحمدلله، لله المنه والفضل، لكن لماذا لم تخبرني بهذا من قبل ؟
ابتسم الدكتور خالد بحنان قائلاً : كنتُ أريدك أن تختاري طريقك بنفسك، دون أن تشعري بأنكِ مجبرة على تحمل مسؤولية هذا المكان، كنت أعلم أنك ستصلين إلى هنا بإرادتك، تمامًا كما فعل والدك .
وبعد هذه المفاجاة، بدأت جوانا تشعر بمسؤولية أكبر تجاه المستشفى، لم تعد تراه مجرد مكان للعمل، بل أصبح جزءًا من إرث والدها، وأصبح حلمها أن تطوره ليكون أكثر من مجرد مستشفى، بل مركزًا شاملًا لصحة المرأة والمراهقات .
وفي أحد الأيام، أثناء جولتها في المستشفى، دخلت قسم الأرشيف الطبي، حيث كانت تبحث عن ملفات بحثية قديمة لوالدها، وهنا وقعت عيناها على ملف غامض يحمل اسم (مشروع الأمل) وعندما فتحته، وجدت مجموعة من الأوراق التي تحمل توقيع والدها والدكتور خالد، وكان الموضوع يتعلق بإنشاء (مركز طبي خاص لعلاج الحالات المستعصية للنساء والمراهقات)، لكن المشروع لم يُنفذ .
شعرت جوانا بسعادة كبيرة، لأنها أيقنت أن والدها كان يثق بها وأن هذا هو الوقت المناسب لتنفيذ هذا المشروع، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فقد كان المستشفى يعاني من بعض الأزمات الإدارية،
جوانا الآن ليست طبيبة بل ابنة لرجل لم يترك لها إرثًا عظيماً فقط بل مسؤولية كبيرة جداً لم تنجز بعد .
ذهبت جوانا إلى الدكتور خالد لتخبره عما رأته في قسم الأرشيف، وعرفت منه أنه توقف المشروع بعد وفاة والدها، وأنه لم ينسى أمره بل كان ينتظر تخرج الدكتورة جوانا وعودة ابنه المهندس سامر من السفر لإنجاز هذا المشروع الكبير، إبنه هو مهندس المشاريع والإنشاءات، وهو المشرف على توسعة المستشفى بطريقة تتناسب مع احتياجات المرضى والعاملين .
لقد كان مسؤولًا عن تصميم أقسام المستشفى وفقًا لأعلى معايير الصحة والسلامة، لكنه سافر لإكمال الماجستير في نفس تخصصه، وهو من سيتولى إتمام هذا المشروع عند عودته .
شعرت جوانا بسعادة غامرة لسماع هذا الخبر، وتمنت لو أن والدها كان حاضرًا بجانبها الآن ليدعمها ويفخر بما حققته، كما يفخر الدكتور خالد بابنه المهندس سامر .
تسارعت الأحداث سريعًا، وحققت جوانا نجاحات بارزة في مجالها. أصبحت المستشفى واحدة من أهم المعالم الطبية في المنطقة، خصوصًا بفضل جهودها التي تميزت في علاج الاضطرابات الهرمونية لدى الفتيات. كما تعاونت مع زميلاتها الطبيبات عبر مدونتها الطبية الإلكترونية، التي أصبحت منصة رائدة لمعالجة كل ما يتعلق بالفتيات في مرحلة البلوغ، من تحديات نفسية وجسدية إلى قضايا الجمال والصحة، وقد حققت هذه المنصة نجاحًا كبيرًا، واستفادت منها العديد من الفتيات اللاتي كن بحاجة إلى التوجيه والإرشاد .

وفي مساء أحد الأيام، وبينما كانت جوانا غارقة في عملها بين المرضى، تلقت اتصالًا من الدكتور خالد يطلب منها الحضور إلى مكتبه لأمر عاجل، ذهبت إلى مكتبه سريعاً، وعند دخولها فوجئت بشاب طويل القامة، ذو هيبة واضحة، يبدو عليه الذكاء والفطنة، يجلس على أحد الكراسي بجانب مكتب الدكتور خالد الذي كان يحتسي قهوته المفضلة على مكتبه الكبير .
جلست جوانا على الكرسي المقابل للمهندس سامر مرحبة بوجوده .
جوانا بابتسامة خفيفة : أهلًا وسهلًا، سعدت بلقائك .
المهندس سامر : أهلًا بكِ، دكتورة جوانا، عندما أخبرني والدي عنكِ، توقعت أنكِ أكبر سنًا، لكنكِ تبدين صغيرة جدًا .
الدكتور خالد : نعم، هي صغيرة في عمرها، لكنها كبيرة في فكرها وإنجازاتها .
شعرت جوانا بالخجل من كلمات الإطراء التي وجهها الدكتور خالد وابنه سامر، لكنها ابتسمت بصمت ولم تنطق بكلمة واحدة .
بادر سامر بالحديث، وسألها عن المشروع الذي تعمل عليه، موضحًا أنه اطلع على تفاصيله أثناء دراسته في الخارج، وأنه أعد التصاميم اللازمة لتنفيذه، وأكد لها أنه سيبدأ العمل على المشروع في اليوم التالي، معربًا عن تفاؤله الكبير بنجاحه. شعرت جوانا بسعادة كبيرة، فقد كان هذا المشروع يمثل حلمًا كبيرًا بالنسبة لها .
مرت الأشهر سريعًا خلال فترة تنفيذ المشروع، وكانت جوانا تتابع كل تفاصيله باهتمام كبير، لتتأكد من أن كل شيء يتم وفقًا لرؤية والدها الراحل .
وبالفعل، انتهى المشروع بنجاح مذهل، وحظي المشروع بإشادة واسعة من الجميع، سواء من العاملين أو المرضى .
خلال فترة العمل، تعمقت العلاقة بين جوانا والمهندس سامر، الذي أعجب بشخصيتها المميزة، ووقارها وطموحها .

فقرر المهندس سامر أن يتقدم لخطبتها بشكل رسمي، وافقت جوانا على الزواج، فقد شعرت أن سامر هو الشخص المناسب الذي يمكنها مشاركته حياتها والذي يشبه والدها في طموحه وأفكاره .
تم الزواج في حفل بسيط وأنيق، جمع العائلة والأصدقاء المقربين .
وبعد الزواج استمرت جوانا في تحقيق نجاحات جديدة، سواء في عملها بالمستشفى أو من خلال منصتها الطبية التي أصبحت مرجعًا رئيسيًا للفتيات في جميع أنحاء المنطقة .
أما سامر، فقد كان شريكًا داعمًا ومساندًا في كل خطوة، وساعدها في تحقيق توازن بين حياتها الشخصية والمهنية. معًا، شكّلا فريقًا مميزًا يعمل لتحقيق أهداف مشتركة، بهدف خدمة المجتمع وترك أثر إيجابي .
وهكذا، تحولت حياة جوانا من فتاة طموحة إلى نموذج للمرأة الملهمة، واستمرت في عملها ومنصتها التي جمعت فيه بين الحب والعمل، وبين النجاح الشخصي والمساهمة في تحسين حياة الآخرين .


اترك تعليقاً